الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك (نسخة منقحة)
وفي يوم الأحد رابعه: خرج قاضي القضاة علم الدين صالح في جمع موفور إلى الصحراء خارج باب النصر، وجلس بجانب تربة الظاهر برقوق فوعظ الناس على عادته في عمل الميعاد، فكثر ضجيج الرجال والنساء وكثر بكاؤهم في دعائهم وتضرعهم ثم انفضوا قبيل الظهر، فتزايدت عدة الأموات عما كانت.وفي ثامنه: ورد كتاب اسكندر بن قرا يوسف، بأن شاه رخ عاد إلى بلاده وأنه هو رجع إلى توريز، وقصده أن يمشي بعد انقضاء الشتاء لمحاربة قرا يلك صاحب آمد.وقدم كتاب مراد بن عثمان صاحب برصا بأنه هادن الفرنح ثلاث سنين. وقدم كتاب قرا يلك يسأل العفو عن ولده هابيل وإطلاقه.وفي حادي عشرينه: قبض على الأمير زين الدين عبد القادر بن أبي الفرج وكثير من إلزامه، وسلموا إلى الأمير أقبغا أستادار، ثم أفرج عنه في رابع عشرينه على مال يحمله.وفي سادس عشرينه: حضر تجار الإسكندرية وقد طلبوا منها، فأوقفوا بين يدي السلطان، وألزموا جميعهم أن لا يبع أحد منهم شيئاً من أصناف البضائع التي تجلب من الهند، كالفلفل ونحوه، لأحد من التجار الفرنج، وهددوا على ذلك. وسبب هذا أن السلطان أقام طائفة تشتري له البضائع وتبيعها، فإذا أخذت بجدة المكوس من التجار التي ترد من الهند، حملت فلفلاً وغيره في بحر القلزم من جدة إلى الطور، ثم حملت من الطور إلى مصر، ثم نقلت في النيل إلى الإسكندرية، وألزم الفرنج بشراء الحمل من الفلفل بمائة وثلاثين ديناراً. هذا وسعره بالقاهرة خمسون ديناراً. فبلغ السلطان أن بعض التجار سأل الفرنج بالإسكندرية أن يبتاعوا منه الحمل بأربعة وستين ديناراً، فأبوا أن يأخذوه إلا بتسعة وخمسين، فأحب السلطان عند ذلك الزيادة في الفوائد، وأن يأخذ ما عند التجار من الفلفل بسعر ما دفع لهم فيه الفرنج، ليبيعه هو على الفرنج. مما تقدم ذكره، فمنعهم من يبيعهم على الفرنج ليبور عندهم، فيأخذه حينئذ منهم بما يريد.وفيه أيضاً طلب الأمير أقبغا الأستادار الباعة بالقاهرة ومصر ليطرح عليهم السكر فأغلقوا الحوانيت، وفروا منه فأعيا الناس شراء الأدوية للمرضى ولم يكادوا أن يجدوا ما يعللوهم به.وفي هذا الشهر: شنع الموتان الوحي السريع بالطاعون، والنزلات التي تنحدر من الدماغ إلى الصدر، فيموت الإنسان في أقل من ساعة، بغير تقدم مرض. وكان أكثر في الأطفال والشباب، ثم في العبيد والإماء، وأقله في النساء والرجال. وتجاوز في مدينة مصر الفسطاط المائتين في كل يوم، سوى من لم يرد الديوان. وتجاوز في القاهرة الثلاثمائة سوى من لم يرد الديوان. وضبط من صلى عليه في مصليات الجنائز فبلغت عدتهم تزيد على ما أوردوه في ديوان المواريث زيادة كثيرة. وبلغت عدة من مات بالنحريرية- خاصة- إلى هذا الوقت تسعة آلاف، سوى من لم يعرف، وهم كثر جداً. وبلغت عدة الأموات بالإسكندرية في كل يوم نحو المائة. وشمل الوباء عامة البحيرة الغربية والقليوبية.وفي العشر الأخر من هذا الشهر: وجد بالنيل والبرك التي بين القاهرة ومصر كثير من السمك والتماسيح، قد طفت على وجه الماء ميتة، واصطيدت بنية كبيرة، فإذا هي كإنما صبغت بدم من شدة حمرتها. ووجد في البرية ما بين السويس والقاهرة عدة كثيرة من الظباء والدياب موتى. وقدم الخبر بوقوع الوباء ببلاد الفرنج.وفي يوم الخميس سلخه: ضبطت عدة الأموات التي صلي عليها، فبلغت ألفين ومائة، ولم يورد في أوراق الديوان سوى أربعمائة ونيف.وفيه مات ببولاق سبعون لم يورد منهم سوى اثني عشر. وشنع الموتان حتى أن ثمانية عشر من صيادي السمك كانوا في موضع فمات منهم في يوم واحد أربعة عشر، ومضى الأربعة ليجهزوهم إلى القبور، فمات منهم وهم مشاة ثلاثة فقام الواحد بشأن السبعة عشر، حتى وصل بهم إلى المقبرة مات أيضاً. وركب أربعون رجلاً في مركب، وساروا من مدينة مصر نحو بلاد الصعيد، فماتوا بأجمعهم قبل وصولهم الميمون. ومرت امرأة من مصر تريد القاهرة وهي راكبة على حمار مكاري، فماتت وهي راكبة، وصارت ملقاة بالطريق يومها كله، حتى بدأ تغير ريحها، فدفنت، ولم يعرف لها أهل. وكان الإنسان إذا مات تغير ريحه سريعاً، مع شدة برد الزمان. وشنع الموت بخانكاه سريا قوس، حتى بلغت العدة في كل يوم نحو المائتين، وكثر أيضاً بالمنوفية والقليوبية، حتى كاد يموت في الكفر الواحد في كل يوم ستمائة إنسان.شهر جمادى الآخرة، أوله الجمعة: فيه تزايدت عدة الأموات عما كانت فأحصي في يوم الاثنين رابعه من أخرج من أبواب القاهرة، فبلغت عدتهم ألفاً ومائتي ميت، سوى من خرج عن القاهرة من أهل الحكورة والحسينية وبولاق والصليبة ومدينة مصر والقرافتين والصحراء، وهم أكثر من ذلك. ولم يورد بديوان المواريث بالقاهرة سوى ثلاثمائة وتسعين وذلك أن أناساً عملوا توابيت للسبيل فصار أكثر الناس يحملون موتاهم عليها، ولا يردون الديوان أسماءهم.وفي هذه الأيام: ارتفعت أسعار الثياب التي تكفن بها الأموات، وارتفع سعر ما تحتاج إليه المرضى كالسكر وبذر الرجلة والكمثرى، على أن القليل من المرضى هو الذي يعالج بالأدوية، بل معظمهم يموت موتاً وحيا سريعاً في ساعة وأقل منها وعظم الوباء في المماليك السلطانية- سكان الطباق بالقلعة- الذين كثر فسادهم وشرهم، وعظم عتوهم وضرهم، بحيث كان يصبح منهم أربعمائة وخمسون مرضى فيموت في اليوم زيادة على الخمسين مملوكاً، وشنع الموت. بمدينة فوه ومدينة بليبس، ووقع ببلاد الصعيد الأدنى. وانقطع الوباء من البحيرة والنحريرية، وكثر بمدينة المحلة.وفي يوم الخميس سابعه: أحصي من صلى عليه من الأموات في المصليات المشهورة خاصة، فكانوا نحو الألف ومائتي ميت، وصلى بغير هذه المصليات على ما شاء الله. ولم يورد في ديوان القاهرة سوى ثلاثمائة وخمسين، وفي ديوان مصر دون الثلاثين. وصلى بها على مائة. وضبط في يوم السبت تاسعه من صلى عليه بالقاهرة، فكانوا ألفاً ومائتين وثلاثاً وستين، لم يرد الديوان سوى ما دون الأربعمائة، فكان عدد من صلى عليه بمصلى باب النصر في هذا اليوم أربعمائة وخمسين ومات بعض الأمراء الألوف، فلم يقدر له على تابوت، حتى أخذ له تابوت من السبيل. ومات ولد لبعض الوزراء فلم يقدر الأعوان- مع كثرتهم وشدتهم- على تابوت له، حتى أخذ له تابوت من المارستان. وبلغ عدد من صلى عليه بمصلى باب النصر في يوم الأحد عاشره خمسمائة وخمسة، وهي من جملة أربع عشرة مصلى. وبلغت عدة من صلى عليه في يوم الاثنين حادي عشره في المصليات المشهورة بالقاهرة وظواهرها ألفين ومائتين وستة أربعين. وانطوى عن الذي ضبط الكثير، ممن لم يصل عليه فيها، وبلغت عدة من صلى عليه فيها، وبلغت عدة من صلى عليه بمصلى باب النصر خاصة في يوم واحد زيادة على ثمانمائة ميت، ومثل ذلك في مصلى المؤمني تحت القلعة، وكان يصلي على أربعين ميتاً معاً، فما تنقضي الصلاة على الأربعين جميعاً، حتى يؤتي بعدة أموات وبلغت عدة من خرج من أبواب القاهرة من الأموات اثنا عشر ألفاً وثلاثمائة ميت. واتفق في هذا الوباء غرائب منها أنه كان بالقرافة الكبرى والقرافة الصغرى من السودان نحو ثلاثة آلاف، ما بين رجل وامرأة، صغير وكبير، ففنوا بالطاعون، حتى لم يبق منهم إلا قليل. ففروا إلى أعلى الجبل، وباتوا ليلتهم سهارى لا يأخذهم نوم لشدة ما نزل بهم من فقد أهليهم وظلوا يومهم من الغد بالجبل، فلما كانت الليلة الثانية مات منهم ثلاثون إنساناً، وأصبحوا، فإلى أن يأخذوا في دفنهم مات منهم ثمانية عشر. واتفق أن إقطاعاً بالحلقة انتقل في أيام قليلة إلى تسعة نفر، وكل منهم يموت، ومن كثرة الشغل بالمرضى والأموات، تعطلت أسواق البز ونحوه من البيع والشراء، وتزايد ازدحام الناس في طلب الأكفان والنعوش، فحملت الأموات على الألواح والأقفاص وعلى الأيدي وعجز الناس عن دفن أمواتهم، فصاروا يبيتون بها في المقابر، والحفارون طول ليلتهم يحفرون، وعملوا حفائر كثيرة، تلقى في الحفرة منها العدة الكثيرة من الأموات وأكلت الكلاب كثيراً من أطراف الأموات، وصار الناس ليلهم كله يسعون في طلب الغسال والحمالين والأكفان، وترى نعوش الأموات في الشوارع كأنها قطارات الجمال، لكثرتها والمرور بها متواصلة بعضها في إثر بعض، فكان هذا من الأهوال التي أدركناها.وفي يوم الجمعة خامس عشره: جمع السيد الشريف شهاب الدين أحمد بن عدنان كاتب السر بأمر السلطان أربعين شريفاً، اسم كل شريف منهم محمد، وفرق فيهم من ماله هو خمسة آلاف درهم، وأجلسهم بالجامع الأزهر، فقرءوا ما تيسر من القرآن الكريم بعد صلاة الجمعة ثم قاموا- هم والناس- على أرجلهم، فدعوا الله تعالى، وقد غص الناس بالجامع الأزهر فلم يزالوا يدعون الله حتى دخل وقت العصر، فصعد الأربعون شريفاً إلى أعلى الجامع وأذنوا جميعاً، ثم نزلوا فصلوا مع الناس صلاة العصر، وانفضوا، وكان هذا مما أشار به بعض العجم، وأنه عمل هذا ببلاد المشرق في وباء حدث عندهم فارتفع عقيب ذلك، فلما أصبح الناس يوم السبت أخذ الوباء يتناقص في كل يوم حتى انقطع وفشا ببلاد الصعيد، وببوادي العرب، وبمدينة حماة، ومدينة حمص. ووجد في بعض بساتين القاهرة سبعة دياب قد ماتوا بالطاعون. ومات عند رجل أربع دجاجات، وجد في كل واحدة منهن كبة في ناحية من بدنها. وكان عند رجل نسناسة فأصابها الطاعون برأسها وأقامت ثلاثة أيام إذا وضع لها الماء والأكل لا تتناول الغداء وتشرب مرة واحدة في اليوم، ثم هلكت بعد ثلاث.وفي ليلة الجمعة التاسع والعشرين: منه خرج بعد غروب الشمس بقليل كوكب في هيئة الكرة، بقدر جرم القمر في ليلة البدر، فمر بين المشرق والقبلة إلى جهة المغرب، وتفرق منه شرر كثير من ورائه.شهر رجب، أوله الأحد:أهل هذا الشهر والوباء قد تناقص بالقاهرة، إلا أنه منذ نقلت الشمس إلى برج الحمل في ثامن عشر جمادى الآخرة، ودخل فصل الربيع، فشا الموت في أعيان الناس وكبرائهم ومن له شهرة، بعد ما كان في الأطفال والخدم، وقد بلغت أثمان الأدوية وما تحتاح إليه المرضى أضعاف ثمنها. وذلك أن الأمراض طالت مدتها، بعد ما كان الموت وحيا فلا تخلو دار من ميت أو مريض. وشنع في هذا الوباء ما لم يعهد مثله إلا في النادر، وهو خلو دور كثيرة جداً من جميع من كان بها، حتى أن الأموال المخلفة عن عدة من الأموات أخذها من لا يستحقها. وشنع أيضاً الموت والأمراض في المماليك السلطانية، بحيث ورد كتاب من طرابلس فلم يجد الشريف عماد الدين أبو بكر بن علي بن إبراهيم ابن عدنان من يتناوله حتى يفتحه السلطان. وكان السيد أبو بكر إذ ذاك يباشر بعد موت أخيه السيد شهاب الدين، وقد عين كتابة السر، فأخبرني- رحمه الله- أنه خرج من بين يدي السلطان حتى وجد واحداً من المماليك خارج القصر، فدخل به حتى أخذ الكتاب من القادم به وفتحه ثم قرأه هو على السلطان.وفي يوم الاثنين تاسعه: خلع على الطواشي زين الدين خشقدم، واستقر مقدم المماليك بعد موت الأمير فخر الدين ياقوت. وخشقدم هذا رومي الجنس، رباه الأمير يشبك وأعتقه، واشتهر في الأيام المؤيدية شيخ، وترقى حتى عمل نائب المقدم، وعرف بالمهابة والحرمة الوافرة.وفي سادس عشره: قدم الأمير تغري بردي المحمودي من سجنه بدمياط، فرسم أن يتوجه من قليوب إلى دمشق، ليكون أتابك العساكر بها، فتوجه إليها.وفي ثالث عشرينه: خلع على بدر الدين حسن بن القدسي، واستقر في مشيخة الشيخونية بعد موت صدر الدين أحمد بن محمود العجمي.وفي هذه الأيام: انحل سعر الغلال وقد دخلت سعر الغلة الجديدة، فأبيع الشعير بتسعين درهماً الأردب، والقمح بمائتين وما دونها، وكثر الإرجاف بحركة قرا يلك على البلاد الفراتية وأن شاه رخ بن تيمور شتا على قرا باغ، فأخذ السلطان في تجهيز العسكر للسفر.شهر شعبان، أوله الأربعاء: في ثالثه: منع نواب القضاة من الحكم، ورسم أن يقتصر الشافعي على أربعة نواب، والحنفي على ثلاثة، والمالكي والحنبلي كل منهما على نائبين، فما أحسن هذا إن تم.وفي يوم الاثنين ثامنه: أدير محمل الحاج على العادة، ولم نعهده أدير قط في شعبان، وإنما يدار دائماً في نحو نصف من شهر رجب، غير أن الضرورة بموت المماليك الرماحة اقتضت تأخير ذلك، حتى أن معلمي اللعب بالرماح أخذوا في تعليم من بقي من المماليك ما عرفوا منه كيف يمسك الرمح، فكان الجمع فيه دون العادة.وفي ثالث عشرينه: خلع على جمال الدين يوسف بن أحمد التزمنتي- المعروف بابن المجير- أحد فضلاء الشافعية، واستقر في مشيخة الخانكاه الصلاحية سعيد السعداء. وكان قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن المحمرة قد استنابه فيها. واستقر أيضاً بدر الدين محمد بن عبد العزيز- المعروف بابن الأمانة- أحد خلفاء الحكم الشافعي في تدريس الشافعية بالشيخونية، وكان ابن المحمرة قد استنابه عنه، فاستقل كل منهما بالوظيفة عوضاً عن مستنيبه بحكم إقامته على قضاء دمشق. وخلع أيضاً على أمين الدين يحيى بن محمد الأقصراي، واستقر في مشيخة الأشرفية المستجدة، وتدريس الحنفية بها، عوضاً عن كمال الدين محمد بن الهمام لرغبته عنها، تعففاً وزهادة.وفي هذا الشهر: انحطت الأسعار فأبيع القمح. بمائة وخمسين درهما الأردب فما دونها، والشعير بتسعين فما دونها، والفول بسبعين درهماً فما دونها. وبلغ الدينار الأشرفي إلى مائتين وثمانين درهماً، والأفرنتي إلى مائتين وستين.وفيه كثر الإستعداد لسفر السلطان.شهر رمضان، أوله الأربعاء: في تاسعه: قرر السلطان في جامعه المستجد بجوار قيسارية العنبر من القاهرة دروساً ثلاثة، فجعل مدرس الشافعية شمس الدين محمد بن علي بن محمد بن يعقوب القاياتي. وقرر عنده عشرين طالباً، وجعل مدرس المالكية عبادة بن علي بن صالح الزرزاري، مولده سنة ثمان وسبعين وسبعمائة وعنده عشرة من الطلبة وجعل مدرس الحنابلة زين الدين عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله المعروف بابن الزركشي، ومعه عشرة من الطلبة. ومولد عبد الرحمن الزركشي في تاسع عشر شهر رجب سنة ثمان وخمسين وسبعمائة.وسمع علي بن إبراهيم البناني صحيح مسلم وفي يوم السبت ثامن عشره: قدم كاتب السر بحلب، شهاب الدين أحمد بن صالح ابن السفاح، باستدعاء ليستقر في كتابة السر بديار مصر، ويستقر عوضه في كتابة السر بحلب ابنه زين الدين عمر، على أن يحمل عشرة آلاف دينار. وكانت كتابة السر قد شغرت بعد موت السيد الشريف شهاب الدين، فباشر أخوه عماد الدين أبو بكر أياماً قلائل، ومات فباشر شرف الدين أبو بكر الأشقر نيابة حتى يلي أحد، وسعى فيها جماعة، فاختار السلطان ابن السفاح، وبعث في طلبه وخلع عليه في عشرينه.وفي ثالث عشرينه: قدم رجل أدعى أنه شريف- اسمه هاشم- بكتاب شاه رخ ابن تيمور، ومعه هدية هي عدة قطع فيروزج، ولم يختم الكتاب، ولا كتب فيه بسملة بل ابتدأه بقوله تعالى: {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} إلى آخر السورة وخاطب السلطان فيه بالأمير برسباي، وأبرق وأرعد.وفي تاسع عشرينه: ابتدئ بالنداء على النيل، وقد بلغت القاعدة ستة أذرع وثلاثة أصابع شهر شوال، أوله الخميس: أهل هذا الشهر وعامة المبيعات من الغلال واللحوم والفواكه رخيصة جدا.وفي يوم الثلاثاء عشرينه: برز محمل الحاج وكسوة الكعبة إلى الريدانية خارج القاهرة فرحل الركب الأول في ثاني عشرينه، ورحل المحمل من بركة الحاج في ثالث عشرينه وفي يوم الخميس ثاني عشرينه: نودي على النيل بزيادة إصبع واحد لتتمة خمسة وعشرين إصبعاً من الذراع التاسعة، ولم يناد عليه من الغد، فتوقفت الزيادة، ثم نودي عليه من يوم الأحد.وفي يوم السبت رابع عشرينه: قدم المماليك السلطانية من التجريدة إلى الرها وخلع علي سليمان بن عذراء بن علي بن نعير بن حيار بن مهنا، واستقر أمير الملأ عوضاً عن مدلج بن نعير، وعمره نحو خمس عشرة سنة.شهر ذي القعدة، أوله السبت: في ثانيه: قدم رسول شاه رخ أيضاً بكتابه.وفي ثالثه: خلع على الوزير الصاحب كريم الدين ابن كاتب المناخ، واستقر أستاداراً عوضاً عن الأمير علاء الدين أقبغا الجمالي مضافاً إلى الوزارة.وفي سادس عشره: قبض على أقبغا الجمالي، وعوقب على المال.وفي يوم الثلاثاء ثامن عشره- وخامس عشر مسرى-: كان وفاء النيل ستة عشر ذراعاً، فركب السلطان حتى خلق المقياس، وفتح الخليج. ولم يركب لذلك منذ تسلطن إلا هذه السنة.وفي رابع عشرينه: خلع على أقبغا الجمالي وأخرج لكشف الجسور.وفي سادس عشرينه: نودي على النيل بزيادة ثلاثة أصابع لتتمة سبعة عشر ذراعاً، وتسعة أصابع. وفيه نقص النيل لتقطع الجسور، من فساد عمالها، فتوقفت الزيادة.وفي ليلة السبت خامس عشره: ظهر للحجاج- وهم سائرون من جهة البحر الملح- كوكب يرتفع ويعظم، ثم يفرع منه شرر كبار، ثم اجتمع. فلما أصبحوا اشتد عليهم الحر فهلك من المشاة ثم من الركبان عالم كثير، وتلف من حمالهم وحميرهم عدد عظيم، وهلك أيضاً في بعض أودية ينبع جميع ما كان فيه من الإبل والغنم، كل ذلك من شدة الحر والعطش.شهر ذي الحجة، أوله الاثنين: فيه نودي على النيل برد النقص وزيادة ثلاثة أصابع، لتتمة سبعة عشر ذراعاً ونصف.وفي يوم الثلاثاء ثامنه: نزل السلطان من قلعة الجبل إلى بيت ابن البارزي المطل على النيل، وقدم بين يديه في النيل غرابان حربية، فلعبا كما لو حاربا الفرنج، ثم ركب سريعاً، وعاد إلى القلعة.وفي عاشره: توجه عظيم الدولة القاضي زين الدين عبد الباسط ناظر الجيوش ومدبر الدولة في جماعته لزيارة القدس.وفي عشرينه- الموافق لثاني عشر توت-: نودي على النيل بزيادة إصبع واحد، لتتمة تسعة عشر ذراعاً وعشر أصابع ولم يناد عليه من الغد، ونقص عشر أصابع لتقطع الجسور.وفي سابع عشرينه: قدم مبشرو الحاج، وأخبروا بهلاك من هلك من العطش.وفي تاسع عشرينه: قدم القاضي. زين الدين عبد الباسط من القدس.وفي سلخه: نودي على النيل برد النقص وزيادة إصبعين.وفي هذا الشهر: توجه الأمير قصروه نائب حلب والأمراء المجردون من مصر بمن معهم لمحاربة قرقماس بن حسين بن نعير، فلقوا جمائعه تجاه قلعة جعبر وقد أخلى الجليل، فأخذ العسكر في نهب البيوت، فخر عليهم العرب فقتلوا كثيراً منهم، وفيهم أتابك حلب، وسلبوهم، فعادوا إلى حلب بأسوأ حال.فكانت هذه السنة ذات مكاره عديدة من أوبئة شنعة، وحروب وفتن، فكان بأرض مصر- بحريها وقبليها- وبالقاهرة ومصر وظواهرهما، وباء مات فيه- على أقل ما قيل- مائة ألف إنسان والمجازف يقول المائة ألف من القاهرة فقط، سوى من مات بالوجه القبلي والوجه البحري، وهم مثل ذلك، وغرق ببحر القلزم في شهر ذي القعدة مركب فيه حجاج وتجار يزيد عددهم على ثمانمائة إنسان، لم ينج منهم سوى ثلاث رجال، وهلك باقيهم، وهلك في ذي القعدة أيضاً بطريق مكة- فيما بين الأزلم وينبع- بالحر والعطش ثلاثة آلاف ويقول المكثر خمسة آلاف، وغرق بالنيل في مدة يسيرة اثنتا عشرة سفينة، تلف من البضائع والغلال ما قيمته مال عظيم. وكان بغزة والرملة والقدس وصفد ودمشق وحمص وحماة وحلب وأعمالها وباء، هلك فيه خلائق لا يحصى عددها إلا الله تعالى. وكان ببلاد المشرق بلاء عظيم، وهو أن شاه رخ بن تيمور ملك المشرق، قدم إلى توريز في عسكر يقول المجازف عدتهم سبعمائة ألف. فأقام على خوي نحو شهرين، وقد فر منه اسكندر بن قرا يوسف، فقدم عليه الأمير عثمان بن طر علي- المعروف بقرا يلك التركماني- صاحب آمد في ألف فارس، فبعثه على عسكر لمحاربة اسكندر، وسار في إثره، وقد جمع اسكندر جمعاً يقول المجازف إنهم سبعون ألفاً، فاقتتل الفريقان خارج توريز، فقتل بينهما آلاف من الناس، وانهزم اسكندر وهم في أثره يقتلون ويأسرون وينهبون فأقام اسكندر ببلاد الكرج، ثم نزل بقلعة سلماس، وحصرته العساكر مدة، فنجا منهم، وجمع نحو الأربعة آلاف، فبعث إليه شاه رخ عسكراً أوقعوا به وقتلوا من معه، فنجا بنفسه جريجاً.وفي مدة هذه الحروب ثار أصبهان بن قرا يوسف، ونزل على الموصل ونهب تلك الأعمال، وقتل وأفسد فساداً كبيراً، وكانت بعراقي العرب والعجم نهوب وغارات ومقاتل، بحيث أن شاه محمد بن قرا يوسف- متملك بغداد- من عجزه لا يتجاسر على أن يتجاوز سور بغداد، وخلا أحد جانبي بغداد من السكان، وزال عن بغداد اسم التمدن، ورحل عنها حتى الحياك، وجف أكثر النخل من أعمالها، ومع هذا كله، فوضع شاه رخ على أهل توريز مال الأمان، حتى ذهبت في جبايته نعمهم، ثم جلاهم بأجمعهم إلى بلاده، وكثر الإرجاف بقدومه إلى الشام، فأوقع الله في عسكره الغلاء والوباء حتى عاد إلى جهة بلاده، وعاد قرا يلك إلى ماردين فنهبها، ونهب ملطية وما حولها إلى عينتاب وحرقها.وكان ببلاد السراي والدشت وصحاري في هذه السنة والتي قبلها قحط شديد، ووباء عظيم جداً، هلك فيه عالم كبير، بحيث لم يبق منهم ولا من أنعامهم إلا أقل من القليل. وكان ببلاد الحبشة بلاء لا يمكن وصفه، وذلك أنا أدركنا ملكها داود بن سيف أرعد بن قسطنطين- ويقال له الحطي- ملك أمحرة، وهو وهم نصاري يعقوبية. فلما مات في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة، قام من بعده ابنه تدرس بن داود، فلم تطل مدته، ومات. فملك بعده أخوه أبرم، ويقال له إسحاق بن داود بن سيف أرعد، وفخم أمره، وذلك أن بعض مماليك الأمير بزلار نائب الشام ترقى في الخدم، وعرف بألطنبغا مغرق، حتى باشر ولاية قوص من بلاد الصعيد، ثم فر إلى الحبشة واتصل بالحطي هذا، وعلم أتباعه لعب الرمح، ورمي النشاب وغير ذلك من أدوات الحروب، ثم لحق بالحطي أيضاً بعض المماليك الجراكسة- وكان زرد كاشا- فعل له زرد خاناه ملوكية، وتوجه إليه مع ذلك رجل من كتاب مصر الأقباط النصارى- يقال له فخر الدولة- فرتب له مملكته، وجبى الأموال وجند له الجنود، حتى كثر ترفه، بحيث أخبرني من شاهده وقد ركب في موكب جليل وفي يده صليب من ياقوت أحمر، وقد قبض عليه ووضع يده على فخذه، فصار يبين ويظهر لهذا الصليب الياقوت طرفان كبيران من قبضته، فشرهت نفسه إلى أخذ ممالك الإسلام لكثرة ما وصف له هؤلاء من محاسنها، فبعث بالتوريزي التاجر ليدعو الفرنج للقيام معه، وأوقع في بمن مملكته من المسلمين، فقتل منهم وأسر وسبي عالماً عظيماً. وكان ممن أسر منصوراً ومحمداً، ولدى سعد الدين محمد بن أحمد علي بن ولصمع الجبرتي- ملك المسلمين بالحبشة، فعاجله الله بنقمته، وهلك في شهر ذي القعدة، فأقيم بعده ابنه اندراس بن إسحاق، فهلك لأربعة أشهر، فأقيم بعده عمه حزبناي بن داود بن سيف أرعد، فهلك في شهر رمضان سنة أربع وثلاثين، فأقيم بعده ابن أخيه سلمون بن إسحاق بن داود بن سيف أرعد، فكانت على أمحرة أربعة ملوك في أقل من سنة.وفي هذه المدة: ثار جمال الدين ابن الملك سعد الدين محمد بن أحمد بن علي بن ولصمع الجبرتي. وذلك أن سعد الدين محمد لما قام بأمر المسلمين أكثر من محاربة النصارى، واتسعت مملكته، وحارب الحطي غير مرة حتى استشهد بعد سنة عشر وثمانمائة، فتمزق أصحابه، وذهب ملكه، ولحق أولاده بزبيد، فأكرمهم ملك اليمن، ثم عادوا إلى الحبشة بعد سنين، فقام بالأمير صبر الدين علي بن سعد الدين مدة ثماني سنين ومات، فقام من بعده أخوه منصور بن سعد الدين بأمر المسلمين في بلاد الحبشة، وحارب الحطي مراراً آخرها في سنة ثمان وعشرين وثمانمائة، وقد سار إليه في عدد جم، وأوقع بالنصارى واقعة شنعاء، قتل فيها وأسر وسبي عالماً كبيراً، بحيث كان عدد من أسر عشرة آلاف، ورجع مظفراً منصوراً، فسار عليه الحطي في آلاف كثيرة وواقعه، فقتل من أمحرة أتباع الحلي خلق كبير، ولم يقتل من المسلمين سوى دون العشرين رجلاً، إلا أنه وقع في قبضة الحطي إسحاق بن داود بن سيف أرعد منصور بن سعد الدين، وأخوه محمد، وانهزم المسلمون، فقيدهما ورجع إلى مقر ملكه، وقد كاد يطير فرحاً، فلما قرب من مدينة الملك، أركب الملك المنصور كهيئته في مملكته، وسار في العساكر به حتى دخل المدينة، فأنزله وأخاه محمداً بدار وأجري لهم ما يليق بهما، ووكل بهما الحرس، فقام بأمر المسلمين بعد منصور أخوه جمال الدين بن سعد الدين، فلما مات الحطي إسحاق بن داود جمع جمال الدين المسلمين وأغار على بلاد أمحرة، فدوخ تلك البلاد، وقتل وأسر وسبي عالماً عظيماً، واستسلم منهم أمماً كثيرة، فأقر كل من أسلم ببلاده، وولى عليهم من قبله، فاتسع نطاق مملكته، وقويت عساكره، وكثرت أموالهم، وبعث بالسبي إلى الآفاق، فكثر الرقيق من العبيد والإماء ببلاد اليمن والهند وهرمز والحجاز ومصر والشام والروم، وظهر من ثبات جمال الدين وشجاعته وصرامته ومهابته وعدله ما يتعجب منه، بحيث أن بعض أولاده الصغار لعب مع صبيان من الحبشة، فضرب منهم صبياً كسر يده، فكتموا ذلك عنه مدة ثم بلغه الخبر، فجمع أعيان الدولة ولامهم على كتمان خبر ولده عنه، ثم أمر بولده فجيء به محمولاً على الكتف لصغره حتى يقتص به، فقام إليه الأعيان بأجمعهم يشفعون فيه ويلتزمون بإحضار أولياء الغريم، فلم يقبل شفاعتهم فيه، فأحضروا أبا الصبي وأهله، فأسقطوا حقهم، وتضرعوا إليه جهدهم في العفو عن ولده، فلم يجبهم، وأخذ ابنه بيده، ومد يده على حجر، وضرب عضده بحديده، فكسره، والأعيان قيام يبكون لبكاء الصغير، وهو يقول له: تألم كما آلمت هذا الصغير. ثم سار به الخدم وهو يصيح من الألم إلى أمه، حتى تمرضه فكان يوماً مهولاً، ولم يجسر بعد ذلك أحد في مملكته أن يظلم أحداً. وله من هذا النمط عدة أخبار، مع العفة والنسك والإستبداد بجميع أموره، وأمور مملكته، ووفور الحرمة، وقمع أهل الفساد، وإزالة المنكرات، فالله يؤيده بعونه.وأما بلاد المغرب، فإن متملك فاس أبا زيد عبد الرحمن حفيد السلطان أبي سالم إبراهيم، ثار عليه السعيد أبو عبد الله محمد المعروف بالجبلي ابن أبي عامر عبد الله بن أبي سعيد عثمان بن أبي العباس أحمد بن أبي سالم إبراهيم بن أبي الحسن، في أوائل سنة ثمان وعشرين، وملك فاس، وقتله، وخرج إلى الشاوية فقتلوه، وأقيم ولده أبو عبد الله محمد، فقام الوزير صالح وبايع الناصر أبي علي بن أبي سعيد عثمان، فقدم أبو عمرو بن السعيد محمد بن عبد العزيز بن أبي الحسن من إفريقية، وملك فاس، ثم فر، فأعيد الناصر أبو علي، فعالجه أخوه أبو محمد عبد الحق بن أبي سعيد وملك فاس بعد قتال في آخر، شهر رجب، سنة ثلاث وثلاثين.
|